الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
تذكر كتب التاريخ حوادث أربعة في محاولات نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، محاولتان تولَّى كِبرَهما بعضُ النصارى، والثالثة والرابعة باء بإثمهما الحاكم العبيدي الزنديق الذي ادعى الربوبية.
المحاولة الآثمة الأولى :
تبوأ إثمها ووزرها الحاكم العبيدي الزنديق: منصور بن نزار بن معد المصري الإسماعيلي المدعي الربوبية، قال فيه الذهبي "سير أعلام النبلاء (15/174).
كان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النِّحلة، عظيم المكر، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع " انتهى باختصار.
وقال السمهودي في "وفاء الوفا" (2/652)
وقد وقع بعد الأربعمائة من الهجرة ما نقله الزين المراغي عن "تاريخ بغداد" لابن النجار قال:
عن أبي القاسم عبد الحليم بن محمد المغربي : ( أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وزين له ذلك.
وقال: متى تم لك ذلك شد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منقبة لسكانها.
فاجتهد الحاكم في ذلك، وأعد مكاناً، أنفق عليه مالا جزيلا. قال : وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة المدنيين وقد علموا ماجاء فيه، وحضر معهم قارئ يعرف بـ " الزلباني"، فقرأ في المجلس : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) التوبة/12، 13
فماج الناس، وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند، ولما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم :
الله أحق أن يخشى، والله لو كان علي من الحاكم فوات الروح ما تعرضت للموضع، وحصل له من ضيق الصدر ما أزعجه كيف نهض في مثل هذه المخزية
فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحاً كادت الأرض تزلزل من قوتها، حتى دحرجت الإبل بأقتابها، والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك أكثرها وخَلْقٌ من الناس، فانشرح صدر أبي الفتوح، وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه "
انتهى بتصرف
المحاولة الآثمة الثانية :
ويبدو أنها محاولة ثانية من الحاكم العبيدي أيضاً ، ينقلها أيضا السمهودي في "وفاء الوفا" (2/653) فيقول :
ونقل ابن عذرة في كتاب "تأسي أهل الإيمان فيما جرى على مدينة القيروان" لابن سعدون القيرواني ما لفظه :
( ثم أرسل الحاكم بأمر الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل الذي أراد نبشه داراً بقرب المسجد، وحفر تحت الأرض ليصل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فرأوا أنوارا، وسُمِعَ صائح : إن نبيكم ينبش، ففتش الناس، فوجدوهم، وقتلوهم " انتهى
المحاولة الآثمة الثالثة :
وقعت سنة (557هـ) في عهد السطان الملك العادل نور الدين زنكي رحمه الله، وكان الذي تولى كبرها النصارى
رأى السلطان نور الدين رحمه الله في نومه النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول : أنجدني، أنقذني من هذين.
فاستيقظ فزعاً، ثم توضأ وصلى ونام، فرأم المنام بعينه ،فاستيقظ وصلى ونام، فرآه أيضا مرة ثالثة.
فاستيقظ وقال : لم يبق نوم.
وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فأرسل إليه، وحكى له ما وقع له، فقال له : وما قعودك ؟ اخرج الآن إلى المدينة النبوية، واكتم ما رأيت.
فتجهزفي بقية ليلته، وخرج إلى المدينة، وفي صحبته الوزير جمال الدين.
فقال الوزير: وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد: إن السلطان قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحضر معه أموالاً للصدقة، فاكتبوا من عندكم.
فكتبوا أهل المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم.
وكل من حضر يأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلى الله عليه وسلم له فلا يجد تلك الصفة، فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انفضت الناس.
فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة ؟
قالوا: لا .
فقال: تفكروا وتأملوا.
فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئاً، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج.
فانشرح صدره وقال: عليّ بهما.
فأُتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليهما بقوله: أنجدني أنقذني من هذين
فقال لهما: من أين أنتما ؟
فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجين، فاخترنا المجاورة في هذا المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: اصدقاني، فصمما على ذلك.
فقال: أين منزلهما ؟
فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة.
وأثنى عليهما أهل المدينة بكثرة الصيام والصدقة، وزيارة البقيع وقباء، فأمسكهما وحضر إلى منزلهما، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيراً في البيت، فرأى سرداباً محفوراً ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك.
وقال السلطان عند ذلك: اصدقاني حالكما ! وضربهما ضربًا شديدًا، فاعترفا بأنهما نصرانيان، بعثهما النصارى في حجاج المغاربة، وأعطوهما أموالاً عظيمة، وأمروهما بالتحيل لسرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانا يحفران ليلاً، ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاعتلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة.
فلما اعترفا، وظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره، بكى بكاءً شديداً، وأمر بضرب رقابهما، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقاً عظيماً حول الحجرة الشريفة كلها، وأذيب ذلك الرصاص، وملأ به الخندق، فصار حول الحجرة الشريفة سورٌ رصاصٌ، ثم عاد إلى ملكه، وأمر بإضعاف النصارى، وأمر أن لا يستعمل كافر في عمل من الأعمال.
ذكر هذه الحادثة جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي (ت 772هـ) في رسالة له اسمها : "نصيحة أولي الألباب في منع استخدام النصارى"
ويسميها بعضهم بـ "الانتصارات الإسلامية "، نقلها عنه علي بن عبد الله السمهودي (ت 911هـ) في كتابه وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى " (2/648-650)
وذكرها الحافظ جمال الدين عبدالله بن محمد بن أحمد المطري (ت 765هـ)، وكان رئيس المؤذنين في الحرم النبوي ، وهومؤرخ، له كتاب " الإعلام فيمن دخل المدينة من الأعلام " قال : " سمعتها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر عمن حدثه من أكابر من أدرك، أن السلطان محموداً...وذكر القصة بنحو ما سبق مع اختلاف يسير
نقلا عن "وفاء الوفا" (2/650)
المحاولة الآثمة الرابعة :
يحدثنا عن هذه المحاولة العلامة الرحالة ابن جبير أبو الحسين محمد بن أحمد، المتوفى سنة (614هـ) ، يذكرها في "رحلته" في أحداث سنة (578هـ) (ص/34-35)، وذلك بعد وصوله إلى الإسكندرية، حيث قال:
لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا – يعني ذي القعدة - ، عاينَّا مجتمعا من الناس عظيما بروزالمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق، فسألنا عن قصتهم، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقًا وجزعًا :
وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم – البحر الأحمر -، ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بِكِراء – أي بأجرة - اتفقوا معهم عليه، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم، وأكملوا إنشاءها وتأليفها، ودفعوها في البحر، وركبوها قاطعين بالحجاج، وانتهوا إلى بحر النعم، فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا، وانتهوا " عيذاب " – اسم مكان - فأخذوا فيها مركبا كان يأتي بالحجاج من جدة، وأخذوا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص " عيذاب "، وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحدا، وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ولا انتهى رومي ذلك الموضع قط.
ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة، وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخراجه من الضريح المقدس
أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم، فأخذهم الله باجترائهم عليه، وتعاطيهم ما تَحُولُ عنايةُ القدرِ بينهم وبينه، ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم، فدفع الله عاديتهم بمراكب مرت من مصر والإسكندرية، دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد المغربة البحريين، فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم، وكانت آية من آيات العنايات الجبارية، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان، نيف على شهر ونصف أو حوله، وقتلوا وأسروا، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها، ووجه منهم مكة والمدينة، وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما، والحمد لله رب العالمين " انتهى
فهذه هي المحاولات التي وقفنا عليها، والله تعالى حافظ جسد نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تصل إليه أيدي أعدائه بسوء، وللمزيد حول هذا الموضوع يراجع كتاب "القبة الخضراء ومحاولات سرقة الجسد الشريف" لمحمد علي قطب، الدار الثقافية
تذكر كتب التاريخ حوادث أربعة في محاولات نبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، محاولتان تولَّى كِبرَهما بعضُ النصارى، والثالثة والرابعة باء بإثمهما الحاكم العبيدي الزنديق الذي ادعى الربوبية.
المحاولة الآثمة الأولى :
تبوأ إثمها ووزرها الحاكم العبيدي الزنديق: منصور بن نزار بن معد المصري الإسماعيلي المدعي الربوبية، قال فيه الذهبي "سير أعلام النبلاء (15/174).
كان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النِّحلة، عظيم المكر، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع " انتهى باختصار.
وقال السمهودي في "وفاء الوفا" (2/652)
وقد وقع بعد الأربعمائة من الهجرة ما نقله الزين المراغي عن "تاريخ بغداد" لابن النجار قال:
عن أبي القاسم عبد الحليم بن محمد المغربي : ( أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من المدينة إلى مصر، وزين له ذلك.
وقال: متى تم لك ذلك شد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر، وكانت منقبة لسكانها.
فاجتهد الحاكم في ذلك، وأعد مكاناً، أنفق عليه مالا جزيلا. قال : وبعث أبا الفتوح لنبش الموضع الشريف، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة المدنيين وقد علموا ماجاء فيه، وحضر معهم قارئ يعرف بـ " الزلباني"، فقرأ في المجلس : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ * أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) التوبة/12، 13
فماج الناس، وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند، ولما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم :
الله أحق أن يخشى، والله لو كان علي من الحاكم فوات الروح ما تعرضت للموضع، وحصل له من ضيق الصدر ما أزعجه كيف نهض في مثل هذه المخزية
فما انصرف النهار ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحاً كادت الأرض تزلزل من قوتها، حتى دحرجت الإبل بأقتابها، والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض، وهلك أكثرها وخَلْقٌ من الناس، فانشرح صدر أبي الفتوح، وذهب روعه من الحاكم لقيام عذره من امتناع ما جاء فيه "
انتهى بتصرف
المحاولة الآثمة الثانية :
ويبدو أنها محاولة ثانية من الحاكم العبيدي أيضاً ، ينقلها أيضا السمهودي في "وفاء الوفا" (2/653) فيقول :
ونقل ابن عذرة في كتاب "تأسي أهل الإيمان فيما جرى على مدينة القيروان" لابن سعدون القيرواني ما لفظه :
( ثم أرسل الحاكم بأمر الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل الذي أراد نبشه داراً بقرب المسجد، وحفر تحت الأرض ليصل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فرأوا أنوارا، وسُمِعَ صائح : إن نبيكم ينبش، ففتش الناس، فوجدوهم، وقتلوهم " انتهى
المحاولة الآثمة الثالثة :
وقعت سنة (557هـ) في عهد السطان الملك العادل نور الدين زنكي رحمه الله، وكان الذي تولى كبرها النصارى
رأى السلطان نور الدين رحمه الله في نومه النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول : أنجدني، أنقذني من هذين.
فاستيقظ فزعاً، ثم توضأ وصلى ونام، فرأم المنام بعينه ،فاستيقظ وصلى ونام، فرآه أيضا مرة ثالثة.
فاستيقظ وقال : لم يبق نوم.
وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي، فأرسل إليه، وحكى له ما وقع له، فقال له : وما قعودك ؟ اخرج الآن إلى المدينة النبوية، واكتم ما رأيت.
فتجهزفي بقية ليلته، وخرج إلى المدينة، وفي صحبته الوزير جمال الدين.
فقال الوزير: وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد: إن السلطان قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم، وأحضر معه أموالاً للصدقة، فاكتبوا من عندكم.
فكتبوا أهل المدينة كلهم، وأمر السلطان بحضورهم.
وكل من حضر يأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلى الله عليه وسلم له فلا يجد تلك الصفة، فيعطيه ويأمره بالانصراف، إلى أن انفضت الناس.
فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئا من الصدقة ؟
قالوا: لا .
فقال: تفكروا وتأملوا.
فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئاً، وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج.
فانشرح صدره وقال: عليّ بهما.
فأُتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليهما بقوله: أنجدني أنقذني من هذين
فقال لهما: من أين أنتما ؟
فقالا: من بلاد المغرب، جئنا حاجين، فاخترنا المجاورة في هذا المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: اصدقاني، فصمما على ذلك.
فقال: أين منزلهما ؟
فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة.
وأثنى عليهما أهل المدينة بكثرة الصيام والصدقة، وزيارة البقيع وقباء، فأمسكهما وحضر إلى منزلهما، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه، فرفع حصيراً في البيت، فرأى سرداباً محفوراً ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة، فارتاعت الناس لذلك.
وقال السلطان عند ذلك: اصدقاني حالكما ! وضربهما ضربًا شديدًا، فاعترفا بأنهما نصرانيان، بعثهما النصارى في حجاج المغاربة، وأعطوهما أموالاً عظيمة، وأمروهما بالتحيل لسرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانا يحفران ليلاً، ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور، وأقاما على ذلك مدة، فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاعتلك الجبال، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة.
فلما اعترفا، وظهر حالهما على يديه، ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره، بكى بكاءً شديداً، وأمر بضرب رقابهما، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم، وحفر خندقاً عظيماً حول الحجرة الشريفة كلها، وأذيب ذلك الرصاص، وملأ به الخندق، فصار حول الحجرة الشريفة سورٌ رصاصٌ، ثم عاد إلى ملكه، وأمر بإضعاف النصارى، وأمر أن لا يستعمل كافر في عمل من الأعمال.
ذكر هذه الحادثة جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الأسنوي (ت 772هـ) في رسالة له اسمها : "نصيحة أولي الألباب في منع استخدام النصارى"
ويسميها بعضهم بـ "الانتصارات الإسلامية "، نقلها عنه علي بن عبد الله السمهودي (ت 911هـ) في كتابه وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى " (2/648-650)
وذكرها الحافظ جمال الدين عبدالله بن محمد بن أحمد المطري (ت 765هـ)، وكان رئيس المؤذنين في الحرم النبوي ، وهومؤرخ، له كتاب " الإعلام فيمن دخل المدينة من الأعلام " قال : " سمعتها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر عمن حدثه من أكابر من أدرك، أن السلطان محموداً...وذكر القصة بنحو ما سبق مع اختلاف يسير
نقلا عن "وفاء الوفا" (2/650)
المحاولة الآثمة الرابعة :
يحدثنا عن هذه المحاولة العلامة الرحالة ابن جبير أبو الحسين محمد بن أحمد، المتوفى سنة (614هـ) ، يذكرها في "رحلته" في أحداث سنة (578هـ) (ص/34-35)، وذلك بعد وصوله إلى الإسكندرية، حيث قال:
لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا – يعني ذي القعدة - ، عاينَّا مجتمعا من الناس عظيما بروزالمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال، ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق، فسألنا عن قصتهم، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقًا وجزعًا :
وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزم – البحر الأحمر -، ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بِكِراء – أي بأجرة - اتفقوا معهم عليه، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم، وأكملوا إنشاءها وتأليفها، ودفعوها في البحر، وركبوها قاطعين بالحجاج، وانتهوا إلى بحر النعم، فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركبا، وانتهوا " عيذاب " – اسم مكان - فأخذوا فيها مركبا كان يأتي بالحجاج من جدة، وأخذوا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص " عيذاب "، وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحدا، وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله، وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ولا انتهى رومي ذلك الموضع قط.
ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة، وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإخراجه من الضريح المقدس
أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم، فأخذهم الله باجترائهم عليه، وتعاطيهم ما تَحُولُ عنايةُ القدرِ بينهم وبينه، ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم، فدفع الله عاديتهم بمراكب مرت من مصر والإسكندرية، دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد المغربة البحريين، فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم، وكانت آية من آيات العنايات الجبارية، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان، نيف على شهر ونصف أو حوله، وقتلوا وأسروا، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها، ووجه منهم مكة والمدينة، وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمرا عظيما، والحمد لله رب العالمين " انتهى
فهذه هي المحاولات التي وقفنا عليها، والله تعالى حافظ جسد نبيه صلى الله عليه وسلم من أن تصل إليه أيدي أعدائه بسوء، وللمزيد حول هذا الموضوع يراجع كتاب "القبة الخضراء ومحاولات سرقة الجسد الشريف" لمحمد علي قطب، الدار الثقافية